منذ عرفت حقيقة أن ذلك المبنى الشامخ في وسط لندن ليس بالكنيسة ولا بالمعبد الهندوسي بل هو محفل ماسوني، وكلما مررت هناك، كنت أستحضر في ذاكرتي ذلك الكم من الكتب الذي قرأته عن الجمعيات السرية عبر التاريخ، ومنها وأهمها الماسونية.
لم أكن في الحقيقة مهتما بمشاهدة معرض للتذكارات الماسونية لمحت إعلانه للعامة صدفة عند باب المحفل بقدر اهتمامي بشاهدة محفل ماسوني من الداخل، لاسيما من كثرة ما سمعت وقرأت عن السرية التي كنّفت به هذه الماسونية نشاطاتها عبر التاريخ
داخل المحفل
في أرجاء المعرض انتشرت اللوحات الفنية لشخصيات ماسونية بريطانية مختلفة، وغص بالتذكارات الماسونية التي كانت تخص ماسونيين في بريطانيا وأوربا والعالم منذ إعلان تأسيس "المحفل الماسوني البريطاني الأكبر" رسميا عام 1717م، وأشياء تعود لما قبل ذلك.
ومما تقع عليه عيناك في المعرض أدوات الماسونيين المعروفة كالفرجار ومثلث القياس والكوس وشاقول البناء، وملابس الماسونيين التي تستخدم في طقوسهم المختلفة، مرورا بشعارات مرسومة على قطع من القماش وبيارق ومآزر يرتديها الماسونيون خلال تدرجهم في السلم الماسوني، وخطابات ترفيع وترقية، وصولا إلى هدايا من شخصيات ماسونية قيادية في بعض الدول إلى أقرانهم في دول أخرى، بل و قطع بورسلين وخزفيات وأواني الشاي والساعات الحائطية -وكلها مزينة أو موشاة برموز ماسونية مميزة
ماهية الماسونية
الماسونية تعرف نفسها بأنها "حركة أخوية عالمية أهدافها المساعدة المتبادلة والصداقة وخير الناس".
ولطالما تعرضت الماسونية لعداء الكنيسة، ولاسيما الكاثوليكية، وحتى النازية، ونظر إليها الناس بعين الارتياب والخوف.
وما زال العداء لها ماثلا بين المتزمتين المسيحيين رغم أن البابا الراحل "يوحنا بولص الثاني" رفع في 27 تشرين الثاني/أكتوبر 1983 الحرم الكنسي المفروض على جميع الماسونيين منذ عهد البابا "كليمنت الثاني عشر" منذ عام 1738.
وكثيرا ما اتهم أعداءُ الماسونية الحركةَ بأنها تعمل على نشر الليبرالية والعلمانية، مرورا بالتعاليم الشيطانية، بل وحتى التمهيد لظهور المسيح الدجال والقضاء على الأديان، بطرق سرية وخبيثة تعتمد التضليل والخداع بهدف السيطرة المزعومة على العالم، كما يورد الباحث "نيك هاردينغ" في كتابه "الجمعيات السرية"، والكاتب الماسوني "جون مايكل غرير" في كتابه:"الموسوعة الأساسية للجمعيات السرية والتاريخ الخفي
عندما التقيت بالمسؤول الإعلامي في المحفل ويدعى "كريس كونوب"، لم يتردد في إجابتي حين واجهته بالسؤال: "هل حقا أنتم كماسونيين تريدون السيطرة على العالم؟" بأن قال: "هذا الكلام محض هراء لا أساس له من الصحة البتة."
وأردف يقول:"الماسونية أقرب ما تكون إلى ناد يدخله الناس للمتعة، وهي تهتم بنشر المساواة وحب الإنسان لأخيه الإنسان، ومساعدة الآخرين المحتاجين، وأعمال الخير."
وتدليلا على كلامه قدم لي بعض المنشورات الدورية الماسونية التي تظهر في بعضها الهبات والمساعدات بملايين الجنيهات التي قدمتها الماسونية في بريطانيا لضحايا زلزال المحيط الهندي جنوبي شرقي آسيا وضحايا إعصار "كاترينا" في الولايات المتحدة، وعدد كبير من المستشفيات والجمعيات الخيرية
نشأة غامضة
تقول بعض المصادر الماسونية، مثل كتاب "الماسونيون الأحرار: الكتاب المصور لأخوية قديمة" لمؤلفه "مايكل جونستون"، إن هناك أساطير ماسونية ترجع نشأة الحركة إلى ما قبل طوفان نوح بل حتى ترجعها إلى عهد النبي ابراهيم والنبي سليمان.
لكن السائد كما عند معظم الباحثين وكما أخبرني مضيفي "كريس كونوب" أن أصول الماسونية ترجع إلى القرون الوسطى إلى ازدهار حقبة الطلب على البنائين لبناء القلاع والكاتدرائيات الكبرى.
ومن الروايات الشائعة عن نشأة الماسونية، كما يورد الكاتب الماسوني "بات مورغان" في كتابه "أسرار الماسونيين الأحرار"، والكاتبان الماسونيان "جون هاميل" و"روبرت غيلبرت" في كتابهما الموسوعي "الحركة الماسونية: احتفال بالصنعة"، وغيرهم، أنها امتداد لتنظيم عسكري "منقرض" كان يعرف باسم "فرسان الهيكل" ظهر في نهاية الحملة الصليبية الأولى (1095-1099) على المشرق العربي
درجات في السلم
وكما أخبرني مضيفي "كريس كونوب" فالماسونية أساسا لها ثلاث أقسام أساسية أولها يسمى "المحفل الأزرق"، وهو مكون من ثلاث درجات، وتبدأ بدرجة "تلميذ الصنعة المستجد" ثم تليها "زميل الصنعة" ثم تليها "البناء المعلم."
أما القسم الثاني الأعلى فهو "الطقس اليوركي" وهو مكون من 10 درجات، ثم "الطقس الاسكوتلندي" الذي يصل حتى الدرجة 32. أما أعلى درجة ماسونية (معروفة للعلن) فهي الدرجة 33.
والانضمام للماسونية ليس حكرا على أبناء دين معين، بل يمكن أن يدخلها أي شخص من أي دين. وبادرني مضيفي الماسوني الذي اتضح لي أنه يحمل درجة "معلم بناء" بالقول "إن بعض منتسبي المحفل الذي يترأسه هم من دول عربية وإسلامية
رموز وإشارات
لطالما ارتبطت الماسونية بالرموز، والإشارات، وهي كثيرة، (والمصافحات ) السرية (التي قال لي مضيفي إنها مجرد تقليد يعود إلى البنائيين في القرون الوسطى استخدموها للتعرف على بعضهم ولـ"الحفاظ على أسرار المهنة").
طلبت منه أن يشرح لي رمزية الفرجار والكوس اللذين يشاهدان مرارا في أرجاء المحفل، فأجابني أن الفرجار والكوس يمثلان "الطبيعة الأخوية" للماسونية.
وغالبا ما يشاهد داخل الفرجار والكوس رمز آخر هو النجمة أو القمر أو الشمس(تمثل الحقيقة والمعرفة) أو العين أو الحرف اللاتيني G.
أما الحرف G فيقال إنه يمثل أول حرف من كلمة God أي الله، فالماسونيون "ملزمون" بالإيمان بوجود كائن أسمى يسمونه "مهندس الكون الأعظم" وإن كانوا لا يطلقون عليه اسم الله
أما العين داخل الفرجار و الكوس فتسمى "العين التي ترى كل شيء"، ويقول الماسونيون إنها تشير إلى الاعتقاد بـ"أن الله يستطيع أن يسبر ببصره حتى أعماق قلوب وأنفس الناس
".
العين التي ترى كل شيء
لكن بالمقابل يقول أعداء الماسونية إن "العين" ليست عين "الله"( أو المهندس الأعظم الماسوني)، بل هي في الواقع ليست إلا "عين الشيطان" التي يسعون من خلال نشاطاتهم للسيطرة على العالم جعلها" ترى كل شيء تحت سيطرتهم
فحسب كتاب "شرح الرموز الماسونية" لمؤلفته "د. كاثي بيرنز" تقول "إن الحرف G يمثل كوكب الزهرة( كوكب الصباح)، وكوكب الزهرة يمثل العضو الذكري عند الرجل، وهو أيضا أحد أسماء الشيطان" وهو يمثل عند الماسونيين الإله "بافوميت"( الإله الشيطاني الذي اتهم فرسان الهيكل بعبادته في السر،وهو يجسد الشيطان "لوسيفير").
ويضيف أعداء الماسونية، كما يقول الكاتب "مايكل بينسون" في كتابه "داخل الجمعيات السرية" "أن رمز العين التي تظهر في قمة مثلث على الختم الأعظم للولايات المتحدة وعلى فئة الدولار الواحد الورقي، والكلمات المكتوبة تدلل على سيطرة الماسونيين على الولايات المتحدة وعلى رغبتهم في السيطرة على العالم باعتبار أن من صمم الختم ووضع الرسم والكلمات له خلفية ماسونية
بيد أن الماسونيين ينفون أن يكونوا هم وراء وضع الختم الأعظم للولايات المتحدة وصورة الدولار، ويقولون إن التصميم يشابه رموزهم بـ"الصدفة" فقط، وإن مصممه لم يكن ماسونيا.
ويجاهر أعداء الماسونية باتهامهم بأن شعارات ماسونية مثل Novus Ordo Seclorum )New Secular Order) ( وتعني النظام العلماني الجديد)، و Odru ab Chao ( (وتعني:النظام من قلب الفوضى) ( وهو نفس الشعار الذي يتبناه "المحافظون الجدد" الذين بات لهم نفوذ سياسي متعاظم في الولايات المتحدة حاليا) لها مدلولاتها، كما يقول "مايكل بينسون" في كتابه "داخل الجمعيات السرية"، حيث يمكن تفسير الشعار الأخير مثلا على أن الماسونيين "يغتنمون الفرص من الفوضى لأنه من السهل استغلال حاجة البشرية للنظام."
"لا دين، لاسياسة!"
مما يلفت الانتباه لما تعلنه الحركة الماسونية(على الأقل هنا في بريطانيا) أن الماسونيين يحظر على أنفسهم الحديث عن السياسة والدين، وهو ما أكده لي المعلم الماسوني "كريس" بالقول إنه حسب قواعد الماسونية يمنع على الماسونيين مناقشة قضايا سياسية ودينية في خلواتهم.
لكنه لم يتردد في أن يتابع بإخباري أن العديد من الشخصيات السياسية والدينية في التاريخ البريطاني مثلا كانت في صفوف الماسونية، وأبرزها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق "وينستون تشرشل"، ورئيس الكنيسة الأنغليكانية الراحل "جيفري فيشر" الذي توج الملكة إليزابيث الثانية.
وأردف "كونوب" يقول :" حتى في فترة الثلاثينيات، كان هناك محفل خاص بأعضاء مجلس البرلمان عن حزب العمال."
وحين تقصيت منه عن عدد الماسونيين في البرلمان البريطاني حاليا اكتفى بالقول:"ثلاثة أوأربعة نواب فقط